عرف بفيلسوف القضاء ومؤرخ الحضارة في أم الدنيا.. فمن هو طارق البشري؟

   



ولد مع نهاية الثلث الأول من القرن الماضي، وتوفي في بدايات العشرية الثالثة من القرن الحالي، وعاش بينهما عمرا مديدا صبغه بألوان العلم والانحياز للحرية، حيثما كانت والوقوف مع الشريعة والقانون.


انتمى طارق البشري إلى الإسلام روحا وعقيدة، وبنى طريقه الفكري على سنن آبائه الذين كانوا من مراجع العلم والإفتاء في مصر، وفي المذهب المالكي بشكل خاص، فقد كان جده لأبيه سليم البشري، أحد علماء قرية شبراخيت الأجلاء الذين تولوا مشيخة الأزهر، وكان والده عبد الفتاح البشري رئيسا لمحكمة الاستئناف، وأما عمه عبد العزيز البشري فقد كان من رموز الأدب وأسماء الثقافة اللامعين.


أخذ العلم والفكر النصيب الأوفى والأهم من حياة البشري الذي عاش رفيقا للقلم وسميرا للفكر ومحاميا عن الحرية، ومؤرخا للحضارة، ولقد أخذ الرجل مكانة أخرى أكثر سموقا في الذاكرة الحقوقية في مصر، وكانت فتاواه مرجعا مهما للقضاة والباحثين في استيعاب النصوص القانونية وتأسيس الأحكام عليها.


ولئن كان القانون قد أخذ جزءا كبيرا من تراث البشري، فإن الفكر الإسلامي الذي انتقل إليه بعد نكسة 1967 نال هو الآخر نصيبا غير قليل مما أفاض به البشري على صفائح الأيام وحقائب الفكر والذكرى.


إرث الجينات.. رحلة الإبحار في مكتبات الأجداد

يرجع نسب البشري إلى قرية بشر بمركز شبراخيت بمحافظة البحيرة شمال القاهرة، ولكنه ولد في القاهرة فاتح نوفمبر/تشرين الأول 1933، وفيها عاش طفولته الأولى بين حاراتها وأزقتها ومساجدها وكتاتيبها.


وفي أحضان مكتبة والده العامرة بأمهات الكتب وصل البشري رحم العلاقة بينه وبين الكتب والمداد، وأخذت المطالعة وشغف الازدياد العلمي حيزا من ذاكرته المتوهجة.


درس طارق البشري في الابتدائيات القاهرية، وتأبط كتبه ودفاتره التي خطت طريقه المفتوحة إلى المعرفة، إلى حين تخرجه من كلية الحقوق بجامعة القاهرة سنة 1953، وقد كان من حظوظه وحظوظ جيله من الطلاب أن درسوا على يد الرعيل الأول من علماء الشريعة والقانون الكبار في مصر مثل الشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ علي الخفيف، والشيخ محمد أبو زهرة.


قمة هرم القضاء الإداري.. سمعة وضعت دستور الثورة

عمل البشري في حقل القضاء عدة عقود ترقى خلالها في معارج القضاء ليصبح رئيسا للجمعية العمومية لقسميْ الفتوى والتشريع بمجلس الدولة الذي يمثل قمة هرم القضاء الإداري في مصر، ثم عين لاحقا نائبا أول لرئيس مجلس الدولة حتى إحالته للتقاعد سنة 1998.


وكان من آخر مهامه رئاسة لجنة التعديلات الدستورية عقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، فقد اختاره المجلس العسكري لهذا المهمة في 14 فبراير/شباط سنة 2011، وذلك بعد الإطاحة بالرئيس السابق حسني مبارك، وإنما كان اختياره بسبب سمعته الطيبة والإجماع الذي يحظى به عند مختلف المصريين، وخصوصا أهل الثقافة ورموز المجتمع.


وقد سعى البشري إلى تحصين الدستور قدر الإمكان، والحد من سطوة الرئاسة، وتغول آلة التعديل كلما أراد الحكام ذلك، ولهذا انتقد بحدة التعديلات الدستورية التي أجراها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي معتبرا أنها جاءت على خلاف ما يجب من أجل تعديل الدستور.



عام النكسة.. ما وراء الانعطافة الفكرية الكبرى

لم تكن نكسة 1967 مجرد هزيمة مؤلمة للجيش المصري تحت نيران القصف الإسرائيلي، بل كانت زلزالا فكريا كبيرا في فكر ورؤى الأجيال الشابة التي عاصرتها، لقد أعادت هذه الهزيمة صياغة الأسئلة الكبرى للتيارات الفكرية والمفكرين، وأفاضت مداد التحليل وغيرت المواقع والمواقف.


انطلقت أجيال كبيرة من القوميين العرب نحو الماركسية، وغادر آخرون حياض الماركسية إلى الفكر الإسلامي، أو الدعوة القومية بلبوس جديد، وانسحب آخرون من المشهد السياسي والفكري بعد أن جثم الإحباط على الأمة لعقود.


كان طارق البشري من بين الذين أعادوا قراءة النصوص الشرعية، وأعادوا اكتشاف ذواتهم من جديد، فحفر حول جذوره الفكرية الممتدة في عمق التاريخ والفقه الإسلامي، فوجدها ندية ومفعمة بيخضور الانتماء العميق، فأخذ مداده مسارا جديد، ووضع فاصلة فكرية كبرى بين ما قبل هزيمة 1967 وما بعدها.


وقد كان من أول ما كتب مقالته الشهيرة "رحلة التجديد في التشريع الإسلامي" التي كانت انعطافة قوية في مسيرته، وإعلان دخول مؤثر في قمرة القيادة في الفكر الإسلامي، حيث أصبح من الأقلام التأسيسية، ومن فريق الدفاع الأكثر تميزا وخبرة في المنافحة عن الإسلام والحريات العامة، بل كان وفق ما ترى الدكتورة نادية مصطفى من أصحاب السبق الأساسي في رسم الخرائط المعرفية للفكر الإسلامي خلال العقود الثلاثة المنصرمة.


أما الدكتور سيف عبد الفتاح فيرى في تراث البشري ومواقفه شخصية "الفقيه المجتهد الذي يمثل المرجعية للجماعة الوطنية وكافة التيارات برغم أنه يحسب على التيار الإسلامي، فهو يجمع في شخصه هوية الوطن ولغة المؤسسة الجامعة ولغة الإصلاح".


"مصر بين العصيان والتفكيك".. نبوءة الثورة

لمح الدكتور طارق البشري لهب الثورة من خلل الأزمات السياسية والاجتماعية في مصر، وقبل خمس سنوات من ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، أصدر كتابه "مصر بين العصيان والتفكك" الذي كان دستور ثورة هادئة وملتزمة، ومنصة إنقاذ لمصر مما آلت إليه ثورتها، بيد أن قليلا جدا من غير النخبة الواعية من رعى هذا الكتاب حق رعايته.


رأى البشري أن العصيان المدني سيكون فعلا إيجابيا في ظل أي نظام فاقد للشرعية ومراكم للفشل، وأن من حق المواطنين أن ينزعوا عنه الشرعية بثورتهم الواعية التي ينبغي أن تكون بديلا عن تفكك البلاد، وبين هذين الخيارين وهما الثورة والتفكك، تنحصر مآلات أنظمة الفساد والديكتاتورية.


وقد كان البشري واعيا جدا بمآلات التعديلات الدستورية التي تؤسس لترسيخ الديكتاتورية، فكتب منتقدا بقوة: الدلالة الأكبر في أهميتها العظمى تبدو عندما نرجع إلى معارفنا في علم السياسة عن الدولة، فإن الدولة أهم خصائصها أنها هي المؤسسة المجتمعية التي "تحتكر وسائل العنف المشروع"، وهذا الوصف هو ما يبوئها مكان الحاكمية في المجتمع على الجماعة الوطنية.


ويرى أن: هذا الوصف يتضمن عنصرين، عنصر العنف المادي الذي تحتكر حيازته واستعماله وتكسب به نفاذ أمرها وقرارها على المواطنين فلا يستطيعون له في جملتهم معصية، والعنصر الآخر اللصيق به هو عنصر الاتصاف بالمشروعية، أي بالتقبل والرضا من جمهور من يمارس عليهم هذا العنف.


ويمضي البشري معنّفا دسترة الديكتاتوريات بقوله: المشكلة أنه إذا اجتمعت وسائل العنف المادي والقدرة عليه مع مشروعية ممارسته، إذا اجتمع هذان في يد واحدة، فيكون قد توافرت القدرة على الاستبداد، وإنفاذ الصالح الذاتي الخاص للمسيطرين على هذين العنصرين دون مقاومة أو احتمال مقاومة جماعية، لذلك كان من حسن تنظيم الدول -منعا من الاستبداد والطغيان الناجم عن احتكار العنف والمشروعية معا- أن تبنى مؤسسات الدولة على أساس من تقسيم العمل داخل مؤسساتها، فتنشأ بداخلها أجهزة تحوز وسائل العنف بتنظيم منضبط يسيطر على أدوات القهر والأسلحة والقدرة على جباية المال جبرا لإدارة هذه الأعمال، ولكن هذه الأجهزة تكون بعيدة ومجردة تماما عن تملك الشرعية، شرعية إصدار القرارات التنظيمية للمجتمع وللدولة وللعلاقات بين أفراد الجماعة، وشرعية إصدار الأوامر باستخدام أدوات الدولة لتحقيق هذه التنظيمات وكفالة انتظام هذه العلاقات.




"الدولة والكنيسة".. خوض في الممنوعات يحرك البركة الراكدة

كتب طارق البشري بقلم حاد وتشخيصي عن الشأن القبطي وعلاقة الكنيسة بالدولة من خلال كتابه "الدولة والكنيسة"، فقد رأى فيه أن الدولة المصرية تقزمت كثيرا أمام ضغوط الكنيسة القبطية في القضايا المشتركة بينهما.


وقد حرك الكتاب عند صدروه سنة 2011 المياه في بركة راكدة، بعد أن حفر حول جذور العزلة الثقافية والاجتماعية التي فرضتها الكنيسة على الأقباط، وأقامت لهم ملة وشعبا وما يصفه البعض بدولة داخل الدولة.


ورغم أن الكتاب لم يتجاوز أكثر من 100 صفحة، فإنه فجر ألغاما فكرية متعددة، ووضع مصر في مواجهة أسئلتها الكبرى والأكثر أهمية وهيمنة على التاريخ والفكر والسياسة.


وقد لاقى الكتاب غضبا من بعض رموز الكنيسة والمجتمع المصري، ورأوا فيه إثارة للنعرات وتحريضا عنصريا على الكنيسة، بينما رأى آخرون أنه كان تشخيصا واعيا لأزمة عميقة وعلاقة مضطربة بين الطرفين.


 مكتبة التاريخ والفكر والسياسة.. تراث البشري

ترك البشري مكتبة فكرية متميزة جدا، ومتعددة العناوين والمجالات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:


1. الحركة السياسية في مصر 1945-1952.


2. الديمقراطية ونظام 23 يوليو.


3. المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية.


4. بين الإسلام والعروبة.


5. منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي.


6. مصر بين العصيان والتفكك.


إلى غير ذلك من المؤلفات.


وبوفاته في السادس والعشرين من فبراير/شباط 2021 تفقد مصر شمسها الثقافية التي مالت إلى الكسوف بعد فترة طويلة من الإشراق والوهج الفكري.



المصدر : الجزيرة الوثائقية

إرسال تعليق (0)
أحدث أقدم